الفكر الإسلامي

 

 

 

الحج حِكَم ودروس وعِبَر

 

 

 

بقلم :  فضيلة الشيخ / محمد عبد المجيد زيدان

 

     يعيش العالم الإسلامي في شهر ذي الحجة مع مناسك الحج وذكرياته وأهدافه. وقد تخفى على عقولنا حكمة بعض الأوامر أو سر بعض النواهي، فلا ينبغي أن يقلل ذلك من أهمية هذه الأوامر وتلك النواهي، فقد يكون هذا الإخفاء نفسه سرًا من أسرار التشريع، ليختبر فينا الطاعة، ويبلوا فينا الانقياد، والمسلم الصادق يمتثل أمر ربه ولو لم يدرك حكمته ولو لم يفهم فائدته ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة النور آية 51) ولا يبحث المؤمن عن حكمة التشريع، إلا ليزداد يقينه، فالجندي إذا أمره قائده بالتوجه إلى نقطة ما، عليه أن يمتثل لهذا الأمر ولو لم يفهم ما ينطوى عليه من سر، وما يرمي إليه من هدف. أما من أخذ من الدين ما وافق عقله وأدرك سره وترك ما عداه فعليه أن يراجع نفسه ويتوب إلى ربه.

     وإن من أهم ما يلفت النظر عند البحث عن حكمة التشريع الإسلامي أننا نجد الوحدة طابع هذا الدين الحنيف. وأن التوحيد هدفه الأسمى نرى ذلك في أركان الإسلام الخمسة فأولها الشهادتان اللتان تشتملان على إقرار بإله واحد ونبى واحد، فبالشهادتين (شهادة التوحيد) جمع الله شتات الأفكار، وألف بين قلوب الموحدين من مختلف الأمصار والأقطار، ووحد بين الأعداء والأشرار، وبالتوحيد آخى الإسلام بين المهاجرين والأنصار، ولاتقبل عبادة إلا إذا كانت مبنية على أساس العقيدة الصحيحة قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيْرًا﴾ (النساء/124) وفي الصلاة اتجاه إلى قبلة واحدة، وفي الصيام إمساك في شهر واحد، وفي الزكاة تضامن وتكافل ومؤازرة وتعاون، ففيها وحدة في الهدف كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) إلى غير ذلك من الأحاديث الداعية إلى حياة اجتماعية إسلامية  تغمرها الوحدة بأسمى معانيها النبيلة، والحج من أهم الأركان المليئة بالحكم الاجتماعية، فقد خلق الله الناس متفاوتين في معايشهم، فمنهم الغني ومنهم الفقير، هذا ميسور الحال موفور النعمة عريض الجاه، وذاك مسكين بائس ضال في الحياة، وتلك حكمة الله قدرها ليتبادل الناس العمل، فيتعاونوا ويستخدم بعضهم بعضا في مطالبهم وحاجاتهم، الغني يبذل ماله والفقير يبذل جهده في عمله لينال أجره قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْـنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَا يَجْمَعُونَ﴾ (سورة الزخرف آية 32).

     لو وقف التفاوت بين الناس عند حد تبادل المنافـع لكان خيرًا، ولكن بعض الأغنياء تعالى على الفقراء وتعاظم، فولّد بكبره كراهية في نفس الفقير وبعض الفقــراء حَسـدوا الأغنياء وطمعوا فيهم، فقاطعهم الأغنياء وأهملوهم، كبر عند الغني وبغض عند الفقير، غرور لدى الوجهاء وحسد لدى البسطاء، فتنافرت الطبقات في الأمة الواحدة وانحلت الروابط.

     وعلاج هذا المرض في العبادات الدينية التي جاء بها الإسلام، وعلى الأخص فريضة الحج، ففي الحج شفاء عملي وعلاج فعلي يقضى على الغرور، ويرسم المساواة والتعاون والتعادل بين الجميع، في صورة الإحرام والطواف والسعي وغيرها، فإذا نظرت إلى الحجاج فلن تميز أحدهم بزي ولا لباس ولا بمظهر ولازينة، فالكل في بساطة المظهر المتحد متساوون مساواة بين الأفراد ومساواة بين الأجناس والألوان وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (سورة الحجرات آية 13) وصدق رسوله الكريم حيث يقول: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجانب من شعائر الحج في خطبة الوداع فقال: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فاشهد) أليس الحج من هذه الناحية جديرا بعناية المصلحين واهتمام المخلصين وجهود الغيورين حيث إن هذه الفريضة مملوءة بالحكم والدلائل الإيمانية مما جعل الإمام أبو حنيفة النعمان يقول عندما حج البيت الحرام (أدركت أن الحج أعظم العبادات) نعم الحجاج يصلون مباشرة وأمامهم الكعبة المشرفة سعداء في بيت الله وفي بلد الله الحرام ومن لم يتمكن من الحج من المسلمين يتجه بقلبه ووجهه إلى الكعبة المشرفة التي تمثل الأم الحنون. فالحج مدرسة نتعلم فيها الطاعة لله، والعمل ابتغاء وجهه والسعي للجنة التي يهون من أجلها كل شيء، تتعلم المرأة من الحج طاعة زوجها كما أطاعت هاجر إبراهيم عليه السلام، يتعلم الأبناء طاعة الآباء دون تردد أو معصية كما أطاع إسماعيل عليه السلام والده عليهما وعلى نبينا أفضل السلام وأتم التسليم، أطاعه في امتحان وابتلاء عظيم حيث قال إبراهيم لولده إسماعيل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾ (سورة الصافات آية 102) لم يتردد إسماعيل لحظة بل قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة الصافات آية 102) هــذه طاعة للوالد وطاعة لله وجزاء ذلك أنجاه ﴿وفدينا بذبح عظيم﴾ (سورة الصافات آية 107).

     إن شعيرة الحج ترمز للأمن والسلام والنقاء ونظافة العلاقات الاجتماعية بين الناس كافة، فإذا استوفى الحج كل شروط القبول صنع من الحاج مسلماً نبيلاً عف اللسان ليس عيابًا ولا سبابًا ولا فاحشًا لأن الحاج بذلك قد حكم نفسه وسيطر على أفعاله وتمكن من طرح سيئ العادات والخروج من سخيف التقاليد وسجن المألوف والانصراف إلى ميدان التقى والفضائل والسمو الروحي والعلو النفسي لأن الحج الصحيح يربى المسلم على ترك الجدال غير المجدى وعلى أن يكون مسلماً بحق يألف ويؤلف فيكون عبدًا ربانيًا يأمن الناس في كنفه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فالحاج ملك على نفسه بعد أن كان عبدًا لعاداته قال تعالى: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرِ يَعْلَمْهُ الله﴾ (سورة البقرة آية 197) وانظر كيف يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج يخرج المسلم من ذنبه وإثمه وعاداته وقبيح طبعه فيقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» أليس الحج بهذا المعنى خليقًا بعناية علماء التربية وعلم النفس؟ وأي شيء أحق بالعناية من نظام عملي تعبدي يحرر الإنسان من رق الخسران ويصل بينه وبين الرحمن بحبل متين من صدق ويقين وإيمان فلا مجال للشر أو الفسوق أو الخصومة أو الإثم في هذه الرحاب الطاهرة.. ولا فتح لباب الشهوات والأهواء لأن الحاج ما جاء إلا للتطهر منها والتوبة النصوح من كل ما يؤدي إليها، فالحاج بالمعنى الصحيح عبد تائب منيب راغب في رحمة الله سبحانه مبتغ فضله فعليه أن يترك وراء ظهره كل انتماء إلا انتماءه لهذا الدين الحنيف وكل علاقة أو رابطة.. إلا رابطة الأخوة ووحدة الدين لقد ندبه ربه إلى هذه البقاع الطاهرة ليشهد منافع له.. لا ليحمل أوزارًا على عاتقه قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ وهذه المنافع جاءت بصيغة العموم.. فهي منافع في أمر الدين وأمر الدنيا ولا يحصل عليها إلا لمن تأدب بأدب الحج وعظم حرمات الله سبحانه وأن تعظيم حرمات الله سبحانه لاتتفق مع إثارة الجدل أو النعرات التي قضى عليها الإسلام، كما أنها لاتتفق مع مخالفة النظام، فظاهرة الافتراش صورة لاتتفق مع ضرورة الحفاظ على مظهر المدينة المقدسة لأنها تهدر أعظم التجهيزات الجمالية والفنية حول الحرم الشريف.

     إن الحج حل وترحال وانتقال، وطواف وسعى، فيهما إسراع ثم تمهل حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ من الطواف مظهرًا لإرهاب المشركين وإظهار قوة المسلمين في عمرة القضاء وأهل مكة ينظرون ويظنون بالمسلمين الضعف والتراخى فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم يطوفون: «رحم الله امرءا أراهم من نفسه اليوم قوة» وهرول يطوف والمسلمون به يقتدون. فالرياضة البدنية ركن في بناء الإنسان والإسلام سباق إلى تقدير فضل الرياضة فأمر بتعلم السبق والرمى وإتقان ركوب الخيل والسباحة والمبارزة للجهاد في سبيل أمن البلاد والعباد والحق والسلام وربط الرياضة بالعبادات لتشترك العاطفة والشعور مع القلب في أدائها فتكون الرياضة قوة بدنية وعبادة روحية لها في الدنيا منافعها الجليلة، ولها في الآخرة الثواب العظيم وكان من تمام الحكمة الرياضية في الحج مجيئه في سائر فصول السنة صيفا وشتاء وما بين ذلك لارتباطه بالأشهر القمرية ليعتاد المسلم العمل والجهاد والسعي في كل وقت غير عابئ بتقلب الفصول وتبدل الأجواء وليألف النظام والترتيب حيث حددت بعض شعائر الحج بزمن معين ووقت معلوم كالوقوف بعرفة والإفاضة إلى مزدلفة ورمي الجمار وهكذا فإن المناسك التي يؤديها المؤمن في الحج ليست أشكالاً وطقوسًا مجردة من الروح، إنها بطبيعتها بعث جديد تحمل في رحابها مقومات التغير إلى الأفضل: بداية من أعماق النفس بالتطهير ونهاية بتعميق مبادئ الإيمان وترسيخ تعاليم الإسلام فالحج يرمي إلى سعادة المجتمع ويستهدف سعادة الفرد وذلك هو الحج المبرور الحج الخالص، الحج المقبول الحج الذي يطهر النفوس من أدرانها ويخلصها من شرورها وآثامها، الحج الذي نجد في كل خطوة من خطواته وفي كل عمل من أعماله حكمة ونورًا وهدى ورشادًا. لقد قال بعض الزنادقة أن الطواف بالبيت كالطواف حول قبور الأولياء وهذا فهم سقيم وتشبيه مغلوط لأن المؤمنين ما طافوا بالبيت إلا بأمر من الله وما كان بأمر من الله فالقيام به عبادة، وكلنا يعلم أن السجود لغير الله شرك، ولما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام كانت الاستجابة لله عبادة خالصة له سبحانه وتعالى وكان عدم الاستجابة كفرًا صريحًا، طرد ولعن بسببها إبليس اللعين فالطواف بالبيت عبادة من أجل العبادات.

     إن يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر وهو خير يوم طلعت عليه الشمس؛ حيث يتجلى الله على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة) فعرفة أهم أركان الحج يرمز إلى وحدة المسلمين وما بينهم من أواصر القربى ويعملهم ويعلم العالم حولهم لما ينبغي أن يسود بينهم من مساواة ورحمة ورحم الله أمير الشعراء شوقى حيث يقول:

أرى الناسَ أفواجاً ومن كل بقعة

إليك انتهوا من غربة وشتاتُ

تَسَاوَوْا فلا الأنسابُ فيها تفاوتت

لديك ولا الأقدارُ مختلفاتُ

فيوم عرفة هو مؤتمر المسلمين الأكبر

الله فوق الكل فيها وحده

والناس تحت لوائها أكفاء

     والحج فريضة وشعيرة ترمز إلى العديد من الأبعاد العظيمة في حياة المسلم وحياة الأمة الإسلامية، فهو يهدف إلى قوة الأمة الإسلامية واستعدادها لمواجهة التحديات، من خلال وحدة الكلمة واجتماع المسلمين على صعيد واحد في مؤتمر عالمي يؤدون فيه فريضة إسلامية ويشهدون فيه منافع لهم، وهذا المؤتمر فيه قوة للمسلمين وقد شهد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم أول مؤتمر عالمي لحقوق الإنسان في اثناء حجه، حيث أعلن في خطبته الجامعة في حجة الوداع أن أموال المسلمين وأعراضهم ودماءهم عليهم حرام وهذه الحرمة تمتد إلى المسلمين وغيرهم طالما التزموا بالأمن المتبادل وعدم الاعتداء وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر لإعلان وتطبيق حقوق المرأة حيث أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على حقوقها فقال: «استوصوا بالنساء خيرًا»وأكد على أهمية حفظ الكرامة الإنسانية للرجال والنساء، وهكذا اهتم الرسول الكريم في خطبة الوداع على أهم ما جاء به الإسلام وشريعته لتنظيم أمور الحياة في الأسرة وفي المجتمع وبين الأمم.

     إن الإسلام لا يكتفى بالنظريات يقررها ولا يقف عند الدعوة للحق؛ بل يقرن القول بالعمل والتطبيق الفعلي، فدعا إلى التآلف والتعارف والتعاون ثم أوجد للتعارف اجتماع الصلاة، وأوجب الجمعة وشرع العيدين لأبناء البلد أو الحي الواحد، وأوجب الحج ليكون طريقًا لوحدة المسلمين ومؤتمرًا مثمرًا خصبًا فوق غيره من المؤتمرات، إذ يكون هدفه الأعلى السلوك السوي والعمل لا المناظرة والجدل ولحكمة ما كان الجدل في الحج من اللغو.

     ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (سورة البقرة آية 197) وفي الحديث الشريف: «من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة» إن فريضة الحج تحمل أمجد الذكريات فجميع الحجيج ملبون لنداء نادى به الخليل إبراهيم.. وجدد الدعوة إليه محمد صلى الله عليه وسلم حين تلقى من الله سبحانه الأمر بإقامة هذه الفريضة على قواعد الحنيفية السمحة وبين تذكر خطوات الخليل إبراهيم وخطوات خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

     يعيش الحاج متأملاً مقتديًا باحثًا عن الآيات البينات التي لا يراها إلا كل مؤمن صادق الإيمان ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا..﴾ (سورة آل عمران آية 97) وكما يقولون إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمي فالكعبة المشرفة لها أسماء عديدة فهي تسمى البيت لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (سورة البقرة آية 125) وتسمى البيت العتيق قال تعالى: ﴿وَلْيُوْفُوا نُذُورَهُمْ وَليَطَّوَّفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (سورة الحج آية 29) وتسمى البيت الحرام قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ..﴾ (سورة المائدة آية 97) ومن فضل الله على المسلمين أنه لم يحرم من لم يتمكن منهم من أداء هذه الشعيرة من الأجر والثواب فأعطاهم الأيام العشرة المباركة التي تتنزل فيها الملائكة باستفاضة تسجل الذين يسارعون في الخيرات ففي الحديث الشريف: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام - يعني الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيءٍ) رواه البخاري.

     لقد شرعت الأضحية في الإسلام إحياء لسنة الخليل إبراهيم وكمظهر من مظاهر الحب والعطف بين الأغنياء والفقراء وأوجب الإسلام ذكر الله على الذبيحة قال تعالى: ﴿فكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ اِنْ كُنْتُمْ بآيَاتِهِ مُؤْمِنِيْنَ﴾ (سورة الأنعام آية 118) ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَاِنَّه لَفِسْقٌ﴾ (سورة الأنعام آية 121) فما السر العجيب الذي يجعل الذبيحة حلالا مع اسم الله؟ السر أن الذبح إزهاق للروح والروح من أمر ربي هو خالقها وموهبها فهو مالكها وحده يميتها أو يبقيها ولا يملك غيره إزهاق روح حيوان ولكن الله برحمته أباح لعباده أكل بعض الحيوانات فكيف نأكلها ونحن لا حق لنا في نزع روحها وسلب حياتها؟ إذاً فلنأخذ تصريحاً من المالك وإذنا من الخالق هذا التصريح هو ذكر إسم خالق الروح الذي أباح لنا ذلك فذكر اسم الله إقدام على أمر عظيم بإذن من الله لابهوى منا ولا قوة ولا استضعاف للحيوان ولا استهانة بالروح وبهذا تعظم قيمة الروح ويعلم الناس قدرها وخطر إزهاقها وإذا كان الله سبحانه يحرم لحما لم يذكر عليه اسمه أي لم يؤخذ منه تصريح وإذن فكيف تجرؤ أيها الإنسان على إزهاق روح أخيك الإنسان وأنت لاتملك هذا مع الحيوان الأعجم إلا بتصريح من الله والله لم يأذن بقتل إنسان ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ (سورة عبس آية 17) إن الإسلام يوجب على الذابح مع التسمية وذكر الله تعالى أن يريح ذبيحته فيضجعها على جنبها برفق لا عنف فيه ولا قسوة، وأن يحد الشفرة  «بسن السكين» حتى لا يتعذب الحيوان وألا يكثر إمرار السكين على رقبة الذبيحة؛ بل أمره أن يخفى شفرته عن نظر الحيوان قبل الذبح وهكذا يغرس الدين الرحمة والشفقة حتى مع الحيوان قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»، إن الإسلام ينهى بصريح الأمر عن تعذيب حيوان أو التمثيل به أو اتخاذه غرضاً نعبث به أو نلهو ويقول صلى الله عليه وسلم: «دخلت امرأة النار في قطة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض» ويخبر صلى الله عليه وسلم أن الله شكر لرجل صنيعه لأنه سقى كلبًا كان يلهث من العطش ولو كان هذا هو موضوع المقالة لفصلته ولكني أعجب كل العجب للغربيين الذين أنشأوا ما يسمى بجمعية الرفق بالحيوان «واتفقوا جميعًا على ظلم الإنسان ولعبت مطامعهم دورًا خطيرًا في الصراع العالمي فأين تجد الإنسانية المعذبة أمنها وأين تنشد سلامها؟ إن الغرب ملك القوة ولم يملك العدل والرحمة، ولعل شقاء العالم اليوم راجع كله إلى هذه الدول التي أصبحت تمثل السلوك الشرير، إنها تمثل شريعة الغاب ولا يجد الناس في ظلالها إلا كل فزع وترويع ثم بعد ذلك تتشدق بما يسمى «جمعية الرفق بالحيوان» وأين جمعية الرفق بالإنسان؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله وويل للقاسية قلوبهم من غضب العزيز الجبار.

     نعلم جميعًا أن زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة جالبة للحسنات مكفرة للسيئات والذين يقصدون زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوبهم مشتاقة للوقوف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام عليه وعلى صاحبيه رضوان الله على الجميع يقول الإمام الشوكاني في كتابه نيل الأوطار: (المجئ إلى رسول الله بعد الموت كالمجئ إليه قبله) ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: (من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جواره) ويقول الإمام  النووي: واعلم أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه والوقوف على قبره صلى الله عليه وسلم بكل خشية وخضوع إلى رب العالمين وذلك من أهم القربات إلى الله وأنجح المساعي... فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحبابًا متاكدًا أن يتوجهوا إلى المدينة المنورة لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم والوقوف على قبره والصلاة في روضته الشريفة.

     ما أحوجنا أن نستخلص الحكم والدروس والعبر من هذه الفريضة التي هي رمز الوحدة والمساواة والأخوة الصادقة، وما أحول أمتنا الإسلامية أن تخرج من حال الفرقة والتشرذم التي تحياها وقد عبر عنها بصدق أمير الشعراء شوقي حيث يقول:

شعُوبك في شرق البلاد وعرضها

كأصحاب كهفٍ في عميقِ سباتِ

بأَيْمَانِهم نورانِ ذكرٌ وسنةٌ

فما بالُهم في أحلكِ الظُّلُـماتِ

فقُـل ربِّ وَفِّقْ للعظائمِ أُمَّتِي

وزَيِّنْ لها الأفعـالَ والعَزَمَاتِ

وكل عام وأمتنا والعالم كلُّه بخير وسلام

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالقعدة – ذوالحجة 1432 هـ = أكتوبر – نوفمبر 2011 م ، العدد : 12-11 ، السنة : 35